نشرة حوسبة #40: محتوى الإنترنت تتداوله بضع شركات
كل ما تراه تقريبًا حولك من محتوى تابع لشركات قليلة.
حيّاكم الله مشتركي نشرة حوسبة لعلوم الحاسوب ونأسف على هذا الانقطاع الطويل منذ بداية العدوان على غزة. لقد حصلت أحداثٌ كثيرة منذ السابع من أكتوبر وتطلب الأمر إعادة تقييم بعض الملفات وتغيير هيكلة بعض الأعمال.
رمضان على الأبواب وأحببنا الإطلال عليكم بعددٍ من نشرتكم المفضلة قبل الدخول في فترة سباتٍ أخرى :)
إليكم هذا العدد، وهو العدد الأربعون من نشرة حوسبة!
نقاش العدد: محتوى الإنترنت تتداوله بضع شركات
هناك في مجال المحتوى المنشور على الإنترنت ما يُعرف بـ"تحسين محركات البحث" أو الـSEO اختصارًا، وهي مجموعة من المهارات والأساليب التي يتبعها المدونون وناشرو المحتوى عمومًا - بكافة أشكاله - لمحاولة جعل محتواهم يتصدّر النتائج الأولى عند البحث عن كلمات مفتاحية معينة في محرك البحث جوجل.
هناك خوارزميات معيّنة عند جوجل لترتيب النتائج التي تراها في محرّك البحث، ومن المستحيل طبعًا جعل جميع هذه النتائج تظهر كالنتيجة الأولى، ولهذا فإن محرّك البحث يفاضل بينها وفق عوامل كثيرة قد تصل إلى 200 عامل كما في حالة جوجل.
هناك سوقٌ كامل لبيع وشراء أدوات ومعلومات وتجارب مجال تحسين محركات البحث أو "السيو" على الإنترنت، وهي صناعة كبيرة قيمتها المليارات من الدولارات (نحو 68 مليار دولار سنة 2022م).
خلاصة هذا المجال أنه يمكن لمن يمتلك أكثر الأموال والموارد التصدّر على أية كلمات مفتاحية يريدها، وهو بالطبع إما ما سيجلب له أرباحًا ضخمة أو يتحكم بالمحتوى الذي يقرأه الناس.
الجديد اليوم هو أن تقريرًا لموقع اسمه HouseFresh، وهو موقع متخصص في الأدوات المنزلية ومراجعاتها، قد طفح به الكيل من منافسة الكثير من المواقع العالمية المشهورة في مجال الميديا لمحتواه على عددٍ من الكلمات المفتاحية، رغم أن هذه المواقع غير متخصصة في هذا المجال وليس لديها محتوى حقيقي تقدمه، إلا أن جوجل يعطيهم الأفضلية ويقدّمهم على النتائج من هذا الموقع لأن تلك المواقع مشهورة أكثر ويأتيها زوار أكثر ولديها ميزانية أكبر لشراء الروابط الداعمة (Backlinks) من السوق السوداء وبالتالي يمكنهم التصدر على كل شيء، على عكس المواقع العادية مثل هذا الموقع.
فنشر موقع HouseFresh مقالًا طويلًا تفصيليًا بالصور والدلائل التي تثبت أنه أكثر من 20 إلى 30 من منافسيه (وهم من كبار المواقع على فكرة مثل Forbes وPCMag وRealSimple وLive Science وغيرها، وهي مواقع يزورها مئات الملايين في الشهر) يعتمدون جميعًا تقريبًا على مُنتِج محتوى واحد هو من يعمل لهم اختبارات المقارنة بين المنتجات: مقالات "أفضل منتج كذا" أو "مقارنة بين أفضل أجهزة كذا" أو "أفضل 15 منتج للمهمة الفلانية"... وغيرها من المقالات الشبيهة.
فتبيّن أن هذه المواقع كلها تقترح المُنتجات والخدمات للقرّاء على الرغم من كونها سيئة وغير جيدة في الواقع، بل ربما لم يشتروا هذه المنتجات والخدمات ولم يفحصوها أصلًا، ومع ذلك يقترحونها لقارئيهم. ويفعلون هذا لأن هذه المنتجات الرديئة قد تدفع لهم بالسرّ عبر خدمات التسويق بالعمولة (يسمونه Affiliate Marketing) مما يجعلهم يمدحونهم وينشرون عنها في كل مكان.
ومع ذلك، تكافئهم جوجل بمنحهم النتائج الأولى في محرك البحث، وتتجاهل مواقع المحتوى الحقيقي والأشخاص الذين جرّبوا هذه المنتجات بالفعل قبل أن يكتبوا مراجعاتٍ عنها.
ضرب موقع HouseFresh مثالًا على جهاز تنقية هواء صغير تبيعه شركة اسمها "Molekule". وعند البحث في جوجل عن مراجعات لـ"أفضل أجهزة تنقية الهواء" فإنك تجد جميع المواقع الكبرى هذه تقترح هذا الجهاز كواحدٍ من أفضل المنتجات المتوفرة في السوق. وهذا هو العجب؛ لأن شركة Molekule هذه هي شركة قد أفلست، وهناك دعاوى قضائية ضدها بسبب الدعاية الزائفة كما صنّفتها مواقع المراجعات الحقيقية كـ"أسوء جهاز تنقية هواء" على الإطلاق! ومع ذلك تجد هذه المواقع الكبرى تقترح هذا الجهاز في قوائمها ومقالاتها بسبب المال.
تبيّن أيضًا أنه حتى الصور "عالية الجودة" التي تستعملها هذه المواقع في مقالاتها جميعًا ينتجها شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص من مصنع محتوى واحد، ثم يتشاركونها جميعًا لكن من منظورٍ مختلف (تحت شعار انسخ واجبي المنزلي لكن عدّله قليلًا كي لا يكتشفنا الأستاذ):
نشر HouseFresh أيضًا صورة تفصيلية يبيّن فيها أن شركات المحتوى الكبرى التي تتصدّر معظم عمليات البحث على الإنترنت، هي مملوكة في الواقع لـ16 شركة أم فقط:
أي أنه بغض النظر عن المواقع التي تزورها على شبكة الإنترنت، فأنت فعليًا تستهلك واحدًا من المحتويات التي تعدّها هذه الشركات سواءٌ علمت ذلك أم جهلته.
ذكر الموقع أيضًا أن موقع Reddit الأجنبي الشهير للنقاشات هو أيضًا يتصدر على الكثير من نتائج عمليات البحث دون سببٍ حقيقي. كشف الموقع في أحد الحالات مثلًا عن صفحة كتب بها أحد المستخدمين تعليقًا عن أحد المنتجات مما دفع بتلك الصفحة مباشرةً لتصدّر النتيجة على الكلمة المفتاحية، رغم أنه قد اكتُشف أن ذاك المُستخدم محظور من الموقع عند فتح صفحته! أي أنه حتى رغم حظر حسابه فقد ظلّ المحتوى السبامي الذي عمله يتصدّر محرك جوجل ببساطة.
وقد فتحنا باب الحديث عن ريديت فالنقاش يجرّ بعضه: يعلم كل من يعمل في مجال السيو أن عددًا من التحديثات الكبيرة على خوارزميات البحث في جوجل قد حصلت منذ أشهر (في شهر سبتمبر الفائت تقريبًا واستمرت شهرين)، وقد أدت بمعظم مواقع المحتوى العادية إلى خسارة نحو 30% إلى 70% من تدفّق الزوار الخاص بها من محركات البحث.
طيب إذا كانت كل هذه المواقع قد خسرت هذا الكمّ الهائل من الكلمات المفتاحية في محركات البحث فمن الرابح؟ الجواب هو ريديت، ومجموعة من المواقع النقاشية الأخرى مثل Quora وعدد من مواقع مزارع المحتوى العملاقة.
في غضون أشهر قليلة فقط، ورغم أن الموقع لديه عشرات الملايين من الزيارات بالفعل وبالتالي هكذا تغيّر مستحيل عادةً: كسب موقع ريديت ما نسبته 200% إلى 300% من معدّل الزيارات بسبب تحديثات جوجل الجديدة هذه:
صرت تجد ريديت يتصدّر على أي كلمة مفتاحية لمجرّد وجود صفحة نقاش ببضع تعليقات عنها، بغض النظر عن أي شيء آخر.
أي أن ريديت صار يأكل حصة المواقع الأصغر والمدونات المستقلة، لأنها لم تعد تتصدّر نتائج البحث.
كانت هذه كارثة على أصحاب المواقع؛ فانخفاض معدّل الزوّار بهذا الشكل يعني أيضًا انخفاض الأرباح إلى النصف، وهو ما قد يدفع بهم إلى خارج السوق. أضف إلى ذلك المشاكل التي يعاني منها أصحاب المحتوى بالفعل مثل برامج حجب الإعلانات وقلّة الداعمين والأرباح وغير ذلك.
ثم وصل البارحة خبر مثير للاهتمام من رويترز: وقّع موقع ريديت صفقة بقيمة 60 مليون دولار مع شركة جوجل لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها على كامل محتوى الموقع.
أي أن جوجل تدرّب نماذجها على محتوى لا تملكه، ويبيع ريديت حقوق محتوى لم يكتبه، وكلاهما يدعمان بعضهما وتكون صفقة رابحة… وتقف أنت على ناصية الشارع لتتفرّج.
تحصل كل هذه الأحداث بينما يتجهز موقع ريديت لعرض نفسه للاكتتاب العام بعد شهرٍ واحدٍ فقط، وبالتالي هو بحاجة لعمل أي شيء لزيادة الأرباح وزيادة معدل الزيارات.
لا تبدو كل هذه الأحداث صدفة، وقد تجاهلت جوجل نداءات الكثيرين من الناس من الطرفين:
أصحاب المواقع الذين يشتكون من أن مقالاتهم عالية الجودة لا تتصدّر نتائج البحث مهما حصل، بل تتصدّرها المواقع الكبرى فقط صاحبة الميزانيات والموارد الضخمة.
المستخدمون العاديون الذين لا يمرّ شهرٌ واحد إلا ويشتكون من سوء نتائج البحث في جوجل، وأنها لم تعد كما في السابق، وأن نتائج السبام والمحتوى منخفض الجودة صارت أكثر بكثير من قبل.
فيبدو أن ما حصل هو أن جوجل رفعت من ترتيب ريديت بهذا الشكل المتعمّد، وحطّمت بطريقها آلاف مواقع الويب الصغيرة والمدونين المستقلين، مقابل صفقةٍ جيدة مع ريديت تحت الطاولة من أجل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها مباشرةً قبل عرض ريديت للاكتتاب العام.
ثم يأتي المسوقون ومختصو الـSEO ليبيعوا لك الوهم، وليخبروك أن “المحتوى هو الملك”، وأنك لو كتبت محتوى عالي الجودة فستتصدر نتائج البحث… وهذا غير صحيح بالمرة للأسف. وفوقها يبيعونك الكورسات والفيديوهات والأدوات، كل ذلك كي تظل مدمنًا على منتجاتهم وتدفع المزيد من الأموال لقاء التصدّر على خوارزمية بحث يمكن لجوجل تغييرها في أيام.
نأمل أن هذا التقرير كان كاشفًا عن عدة أمور مفيدة سواءٌ إن كنت صاحب موقع محتوى أو مستخدمًا عاديًا… معظم المحتوى الذي قد تجده على محركات البحث مكتوب من أشخاصٍ قلّة وغالبًا ما تكون المواقع الأولى مملوكة لشركات عملاقة أو ربما نفس الشركة. هذا يعني أنه عليك بذل المزيد من الجهد للوصول إلى مقالات ومراجعات حقيقية كتبها بشريون حقيقيون مثلك.
وهو ما يعني أيضًا بدوره، أنه عليك بذل ما تستطيعه لدعم المدونات والمشاريع المستقلة التي تحبّها لكي لا تموت وتذبل وتُدهس أمام هذا السيل الكبير من الشركات والمواقع العملاقة التي تنافسهم في كل صغيرة وكبيرة.
لقد صار المحتوى الحقيقي الذي يكتبه خبراء ومتخصصون أكثر قيمةً من الماضي، وإن لم ندعمه بشكلٍ صحيح ونعلن بقوة أننا لا نريد محتوى السبام أو المحتوى منخفض الجودة، فإننا قد نخسر هذا المحتوى الجيد إلى الأبد.
شاركونا آراءكم عن هذا العدد، أو عن الأعداد السابقة من نشرة حوسبة بشكل عام على تويتر تحت الوسم #نقاشات_نشرة_حوسبة
محتوى جديد من حوسبة
نشرنا هذا المقال البسيط على موقع حوسبة والذي يتحدث عن بعض الوسائل والبرامج التقنية التي يمكنك من خلالها تقليل التلوّث الروحي الذي يصيبك جرّاء تصفّح الإنترنت والهاتف:
أخبار ومواد سريعة
ستجد في هذا القسم بعض الأخبار والمواد السريعة عن مختلف مجالات علوم الحاسوب والتقنية.
تريد اليابان استثمار 67 مليار دولار إلى عام 2030م بهدف تحويلها إلى دولةٍ تصنع الرقاقات والمنتجات التقنية الحساسة. كنا تحدثنا من قبل في نشرة حوسبة عن خطوات عددٍ من دول أوروبا لفعل نفس الأمور بهدف توطين سلاسل التوريد للرقائق التقنية وعدم الاعتماد عليها من الخارج، ويبدو أن العالم كله يتحرك بهذا الاتجاه.
أتاح برنامج Signal الشهير للتراسل الآمن خدمة أسماء المستخدمين (Usernames) بهدف زيادة الخصوصية وعدم الاضطرار إلى الكشف عن رقم الهاتف الشخصي أثناء استخدام البرنامج.
أعلنت جوجل عن تحديثاتٍ جديدة على نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها Gemini، ويبدو إلى اللحظة أن أبرز ميزاته هي قابلية فهم محتويات الفيديو ونقلها إلى نصوص. هذا الشخص مثلًا كان له تجربة مع Gemini حيث صوّر له مكتبته كفيديو وطلب منه كتابة أسماء الكتب التي يراها، ففعل النموذج ذلك وأحضر أغلب الكتب بشكل صحيح. قد تكون هذه أكبر ميزة للنموذج على النماذج الأخرى مثل ChatGPT وغيرها.
كما أعلنت جوجل عن نموذج ذكاء اصطناعي مفتوح المصدر اسمه Gemma، وهو مبنيٌ على نفس معمارية نموذج Gemini إلا أنه أقل مميزاتٍ منه وأخف.
أعلنت شركة OpenAI عن نموذجها الجديد واسمه صورا؛ وهو نموذج لتوليد الفيديوهات من وصفٍ نصيّ. نتائجه مبهرة كما يبدو من العينات الأولى.
أعلنت شركة Stability AI عن نموذجها Stable Diffusion 3، وهو نموذجها الفريد لتوليد الصور من النصوص. يأتي بمميزاتٍ وتحسيناتٍ أكثر من النماذج السابقة.
زاوية غزة
لا ننسى إخواننا وأحباءنا الذين يعانون الأمرّين في غزة المحاصرة على مدار نحو 5 أشهر، وتغطيتنا لهذه الأخبار والأحداث عن علوم الحاسوب لا يعني أننا نسيناهم أو عدنا إلى الوضع الطبيعي.
نسأل الله تعالى أن يكشف الكرب والبلاء عنهم وينصرهم على عدوهم، وأن يطعم جائعهم ويسقي عطشانهم ويشفي جريحهم ويرحم ميّتهم.
كنا ولا نزال ننصح إخواننا معشر التقنيين بالمقاطعة التقنية للخدمة الأجنبية؛ وأن يقاطعوا كل الشركات الإسرائيلية مثل فايفر وSimilarWeb وغيرها، وأن يقاطعوا أيضًا منتجات الشركات الأجنبية قدر المستطاع فنسبة من أرباحها تذهب كضرائب تدفعها هذه الدول لإسرائيل كعطايا لتستمر في حربها.
نشرنا على تويتر عدة تغريدات مطوّلة عن كيفية هذه المقاطعة ويمكنك الوصول إليها عبر وسم: #المقاطعة_التقنية_للخدمات_الأجنبية
***
هنا ينتهي هذا العدد من نشرة حوسبة، ونلقاكم في العدد المقبل بإذن الله. لا تنسوا مشاركة النشرة مع معارفكم وأصدقائكم ليطّلعوا على المحتوى الرائع الذي نعدّه ❤️
تصدر نشرة حوسبة في عيد كل مسلمٍ يوم الجمعة مرتين في الشهر (مرة كل أسبوعين). وأقسام النشرة البريدية تختلف من عددٍ لآخر، على حسب المتاح.